يلعب العرض المسرحي «ثلاث آيات في الوحدة» على وتر العزلة. فهي حالة منتشرة، وساهمت الحروب والتطورات التقنية في تفاقمها. صار الناس، حتى عندما يجتمعون، يشعرون بنوع من العزلة. وتقوم مخرجة العمل مايا زبيب بمحاولة كسر هذا الجمود، فتستحدث مكاناً دافئاً للتأمل وللصمت الذي يشبه الصلوات الداخلية، حيث يتردد في داخلنا صدى التجارب الأليمة التي شهدناها منذ 5 سنوات حتى اليوم. يشكل العمل دعوة إلى الإصغاء لما وراء الكلمات. ويخلق عالماً خيالياً ممزوجاً بالواقع، كما يطرح السؤال التالي: «في ظل الفقد، كيف يمكن أن نكون وحدنا ونحن معاً؟». تتناول المسرحية موضوع الوحدة (فريق المسرحية) توضح المخرجة في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «إنها دعوة لنتأمل الوحدة ووقعها علينا. فآخر 5 سنوات فُرضت علينا العزلة بسبب الجائحة، وانفجار مرفأ بيروت، والثورة، والحرب في الجنوب. الخشبة ستشكّل مساحة تأمل بأبعاد مختلفة». الآيات الثلاث التي تتحدث عنها المسرحية تختصرها زبيب: «يمكننا أن نفهمها من خلال حضور حوارات فنية ثلاثية بين التمثيل والرقص والمسرح، وكذلك من خلال 3 ممثلين، كما أن العرض يتألف من 3 فصول». قد يخيّل لك أن العرض يرتكز على موضوع فلسفي، ولكنْ لمايا زبيب رأي آخر: «إنه بعيد كل البعد عن الفلسفة، بل يتعلّق أكثر بخيالنا، ويتيح لنا التفكير بأفق متسع وعلى مزاجنا. نتذكّر أنه في استطاعتنا أن نحزن ونفرح مع الآخر. فالعرض لا يتبع أسلوب الوعظ، بل يحثّ على استبطان خبرات شخصية». يشارك في العرض مايا زبيب ولمياء أبي عازار وجنيد سري الدين. وهو من كتابة زبيب بمشاركة عمر أبي عازار، ومن تنظيم «مسرح زقاق». ويُقدَّم على خشبة «مسرح المدينة» ابتداءً من 20 حتى 23 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي. وتشير زبيب إلى أن فكرة العمل تنبع من موضوع الوحدة؛ كونها مساحة حقيقية للخلق. وتضيف: «الرسالة التي يحملها العرض محورها الفن. فأن نوجد في عمل فني، حتى لو لم يجرِ التواصل بيننا، فنحن معاً. الفن يشفي ويحملنا على التحليق خارج واقعنا. فعلى مدى ساعة من الوقت نعيش عزلة مختلفة ومتقطعة». «ثلاث آيات في الوحدة» إخراج مايا زبيب (فريق المسرحية) وتتابع موضحة أن الفكرة وُلدت عندها من خلال يومياتها: «تجارب عدة مررت بها مع الوحدة استوقفتني خلال الجائحة، خصوصاً عندما صرت أماً ونحن محجورون في منازلنا. في العرض نتناول موضوعات كثيرة، من بينها المراحل التي ذكرتها سابقاً، والحروب التي شهدناها، وعلاقتي مع ابنتي. فصمت اللحظات التي تخفي في طياتها ما لا يقال يجعلنا نغوص وراء الكلمات لنلتقط الحركات الصغيرة التي تنبض في الفراغ». وفي مشاهد من المسرحية يواجه الحضور وحدتهم تلك، وترجعهم إلى احتمالية الحرب والموت وأفكار أخرى. تتشابك الموضوعات مع بعضها كما عاشها الفرد في واقع مجتمعه، فيعثر مُشاهدها على دفء في البعد، وعلى جمال بمجرد الإصغاء، وتتحول العزلة إلى ممارسة إبداعية تنبض بالجرأة والفرح. تؤكد زبيب في سياق حديثها: «إنها دعوة للحفاظ على الوحدة، فهي مساحة خلق تزودنا بالإبداع. وعندما نتشارك، مثلاً، في مشاهدة عمل فني في صالة واحدة، نعيش وحدة من نوع آخر. وهو ما نحاول إيصالَه في هذه المسرحية. فنفكّر بالعمل ونستوعبه، كلٌّ منا على طريقته». تستعين زبيب بفنانين أجانب لتنفيذ عرض «ثلاث آيات في الوحدة»: «إنهم زملاء سبق أن تعاونت معهم في عروض مسرحية خارج لبنان. مصمم الرقص هو الأسترالي لي سيرل، وكذلك الموسيقي المشارك في العمل بن فروست، في حين مصمم الإضاءة الأميركي جايمس إينغالز. أما الأزياء والديكورات فيوقعها المصمم الألماني غاسبار بيشنر»
شهدت الساحة المغربية منذ ستينيات القرن الماضي بروزًا متصاعدًا للحركات الإسلامية في المجالين الاجتماعي والفكري، تأثرًا بالتحولات السياسية والثقافية التي عرفتها البلاد. وقد أسهم هذا الحضور في توجيه أعداد متزايدة من المنتمين إلى هذه التيارات نحو خيارات علمية ومهنية مرتبطة بالشأن الديني. والمفارقة أن سياسة إعادة هيكلة الحقل الديني التي قادها أحمد التوفيق على رأس وزارة الأوقاف — والتي كان هدفها المعلن تنظيم هذا الحقل وضبطه — هي نفسها التي جعلت المؤسسة الدينية مضطرة إلى توظيف أبناء الحركة الإسلامية في مناصب حساسة. فمع توسع المؤسسة وزيادة حاجتها إلى الكفاءات، وجدت نفسها أمام خيار تعيين أئمة ومرشدين وقيمين ورؤساء مجالس علمية من بين المتخصصين المتوفرين، وكان أغلبهم من خلفيات إسلامية. وقد أكد الواقع هذا الأمر بشكل واضح، حتى أن أحمد الريسوني أشار في أحد التسجيلات الصوتية إلى أن المؤسسة الدينية باتت “مخترقة” بهذا الحضور، وهو توصيف يعكس عمق الظاهرة واستحالة تجاهلها. والأكثر إشكالية أن الدولة لم تنجح حتى اليوم في إيجاد حل جذري للحد من توظيف أبناء هذه الحركة، فضلًا عن “تطهير” الحقل الديني من تأثيرهم. فالمؤسسة الدينية لا تزال تتأرجح بين سياسة إقصاء محدود وبين ممارسة قسرية لـ“التعايش” مع هذا الواقع. أما اليوم، فتعيش المؤسسة الدينية حالة من التوتر المستمر تتجلى في إقالة الأئمة بين الفينة والأخرى، وإعفاء رؤساء المجالس العلمية، وإطلاق خطط مثل “تسديد التبليغ” و“توحيد الخطبة”، في محاولة لاحتواء المد الإسلامي وضبط الشأن الديني. غير أن هذه الإجراءات تظل — في جوهرها — معالجات سطحية لا تلامس جذور الظاهرة ولا تقدم رؤية بديلة قادرة على استيعاب الحراك الديني داخل المجتمع. وفي هذا السياق تبرز الإشكالية المركزية على مستوى التحليل العلمي: أي التيارين يشكل تحديًا أكبر لإمارة المؤمنين وللنموذج الديني المغربي؟ هل هو التيار العلماني الذي يدفع — ضمن أولوياته — نحو تبني مفاهيم مثل حقوق المرأة بصيغ تحررية راديكالية وحقوق المثليين، بما يتعارض مع الثوابت الدينية؟ أم هي الحركات الإسلامية بمختلف تياراتها، التي تطرح مشروعًا دينيًا بديلاً قائمًا على إقامة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة، بما قد يغيّر طبيعة إمارة المؤمنين ويُحدث قطيعة مع النموذج المغربي القائم؟ إن المعضلة الحقيقية تكمن في أن كلا التيارين يشكل تحديًا وجوديًا للنموذج السائد، وإن اختلفت الأساليب والمرجعيات. فالمؤسسة الدينية، ما دامت رهينة منطق الرقابة والمحاصرة، ستظل عاجزة عن مواجهة أيّ من التحديين، لأنها ببساطة تشتغل على النتائج دون أن تلامس الأسباب العميقة التي أنتجتها
طــــــرفــــــة عــيــــن عندما تتسابق المفاهيم على ميدان التربية ، ويعلو صهيل الشعارات في كل ساحة صفية ، يطل علينا التدريس الصريح كفارس لا يهاب الغبار، يحمل سيف الوضوح وروح المقصدية ، وهو أسلوب تدريس لا يكتفي بأن ” يُعَلّمَ” بل يسعى أن “يُفَهّم” ، ولايرضى بأن يلقّن ، بل يوقد في العقول شرارة التبين . لكن؛ بين طموح الفكرة ونبض الممارسة مسافة تتكسر عندها الرماح ، حيث تصطدم ريادة الرؤى بصلابة الواقع ، ويتعانق الحلم بالمعاناة في مشهد مدرسي يختلط قيه النظام بالعفوية ، والوقت بالضيق ، والتخطيط بالمفاجأة … فهل يظل التدريس الصريح مجرد نجم في سماء التنظير أم يغدو شمسا تضيء دروب الفعل اليومي في حجرات الصفوف ؟ تلكم هي حكاية التصادم بين الطموح والممارسة ، نرويها اليوم ؛ لا لنرثي الفـارق بــل لنفهــم الطـريق ! تقديــــم على سبيل التأمـــــل في السنوات الأخيرة تصاعد الاهتمام في الأوساط التربوية المنخرطة في مشروع مؤسسات الريادة بمفهوم التدريس الصريح ؛ بوصفه أحد أكثر النماذج “فعالية ” في تحسين تعلمات المتعلمين خاصة في التعلمات الأساس كالقراءة والكتابة والرياضيات . فالتدريس الصريح يقوم على الوضوح والتدرج ، والتغذية الراجعة المستمرة ، والانتقال المنظم من التعلم الموجّه إلى التعلم المستقل . غير أن الحلم بتطبيقه في الميدان يصطدم في كثير من الأحيان بواقع صفي مزدحم بالتباينات والمهام ، وثقيل بالتناقضات والإكراهات ، فتبدوا المسافة بين الطموح والممارسة أوسع من أن تختصر في شعار متفائل ، أو تكوين عابر ! طموحات الريادة بين الطمــــوح والواقع استثمارا لعائد دورات التكوين داخل قاعات التدريس ؛ يطمح المعلمون ” المناضلون” رواد الممارسة البيداغوجية إلى بناء صفوف دراسية تسودها ثقافة التعلم النشيط والوضوح في الأهداف ، والدقة في استراتيجيات التقديم والتقويم ، فالتدريس الصريح في جوهره يمثل نموذج أسلوب منضبط وواضح المعالم يمنح الأستاذ (ة) القدرة على توجيه التعلم بطريقة واعية ومخطط لها ، ويمنح للمتعلمين والمتعلمات إحساسا بالأمان المعرفي ، لأنهم ببساطة – نظريا – يعرفون ماذا يتعلمون ؟ولماذا ؟وكيف…؟ غير أن هذا الطموح العالي كثيرا ما يصطدم بتحديات ميدانية، منها : ضعف التناغم بين الفاعلين ، وكثافة المحتوى والمضامين ، وضيق الزمن ، وتعدد الفوارق والأوساط ، وضغط التقييمات ، وضعف المرافقة الداعمة … في واقع الممارسة الصفية بين الفوضى وضيق الوقت في الواقع اليومي للمدرسة المغربية العمومية يواجه الأستاذ(ة) تحديات متعددة ومتشابكة منها : الشعور بفقدان جاذبية المدرسة وفرص التعبير عن الذات ، وتتابع الحصص وضيق زمن الفهم المخصص لها وتباين مستويات المتعلمين فكرا وسلوكا،وضغوط التتبع المستمر والمهام المتراكمة إداريا وبيداغوجيا.. فالأستاذ(ة) وهو يحاول أن يوازن بين سرعة الإنجاز وعمق الفهم يجد نفسه مضطرا إلى الاختزال وتجاوز الممارسة المتكررة التي يقوم عليها هذا النموذج لحد الملل! فالمنفذ للحصة يسجل بما لا يدع مجالا للشك أن الممارسة الصفية تتحول إلى تكرار شكلي للخطوات والأهداف والوسائل دون تحقيق فعلي لمبدأ الانتقال من التوجيه إلى الاستقلالية (من نتعلم ونتعلم معا إلى أنجز بمفردي ) مما يجعل أثر التعلم محدودا في الزمن والمستوى وخاصة مع المتعلمين البطيــئــين في الأداء والإنجاز. وفي ظل هذه الظروف، يقع الممارس البيداغوجي في مفترق الطرق : بين الرغبة في تطبيق التدريس الصريح بكل خطواته المنظمة ؛ وبين الحاجة إلى مسايرة الإيقاع التعلمي للجماعة الصفية ، وهنا تتحول أشكال التدخل الصفي من نهج منهجي إلى محاولات متجزأة تفتقد الاتساق والديمومة ، فيفقد التعلم وضوحه وتبهت روح النموذج التي تقوم على التدرج والتمكــــن ( 80℅ ) … فجــوة التطبيـــق : حين يختلـــــف الإيقــاع عن اللحــن في خضم سعي الأستاذ (ة) لتطبيق نموذج التدريس الصريح يظهر تناقض ملحوظ بين شرائح الدروس الرقمية المعتمدة في التخطيط اليومي الهيكلي للحصة – اليوم التربوي – وبين المحطات المنهجية والمبادئ الإثني عشر 12 التي يقوم عليها هذا النموذج ، فبينما تبنى الشرائح على تقسيم زمني صارم يتعامل مع الحصة كأجزاء ميكانيكية متتالية تقوم المبادئ على منطق دينامي تفاعلي تثبت الفهم وتراعي التدرج المعرفي .وهنا يبرز السؤال المربك : كيف نطبق وضوح التدريس في بيئة تخطيط يغلب فيها الشكل على الجوهر ؟ هذا التساؤل يدفع الممارس البيداغوجي إلى الوقوع في فخ الشكلية ينفذ ما ورد في الشرائح وفق التوقيت بدل التفاعل مع مؤشرات التعلم الفعلية ، ومن هنا تظهر الحاجة إلى إعادة النظر في النماذج التخطيطية بمساهمة الممارسين في الميدان -أساتذة ومفتشين- حتى تكون منسجمة مع روح التدريس الصريح لا مناقضة له … أنفاس الريادة في دروب المواكبة والمصاحبة التربوية في قلب العملية التربوية ، تكمن الأساسات الحقيقية للنجاح في مواكبة ومصاحبة الأستاذ(ة) ، فالمواكبةليست مجرد مراقبة أو متابعة ؛ بل هي دعم مستمر،توجيه حكيم، وإشراك في تطوير الممارسة البيداغوجية .والمصاحبة تعني أن يقف إلى جانب الأستاذ(ة) من يقدر جهوده ،ويشجعه على الابتكار، وتعددية الأساليب التعليمية ، ويساعده في مواجهة التحديات اليومية في إطار تشاركي قائم على التقدير والاحترام والثقة المتبادلة . أتأمل كيف أن هذه العلاقة -كما عشتها لثلاثة عقود إلى الآن -بين الأستاذ (ة) والمفتش(ة) لا تصنع جدارا من السلطة بل جسرا من التعاون أعمدته المرونة والإنصات وفهم الخصوصيات ! ونرى أن التحول نحو التدريس الصريح ليس قرارا فرديا بل مسارا مؤسساتيا ، وهنا أهمية جهاز التفتيش التربوي وأدوار المصاحبة والمواكبة التربوية . ففي قاعات المدارس الرائدة ، المواكبة ليس مراقبة أوافتحاصا ، والمصاحبة ليست تقييما أوأحكاما ؛ بل هي شراكة فكرية ومهنية تعين المزاولين للتدريس على التوازن والتوفيق بين متطلبات النمذجة الرسمية وروح التدريس الصريح .فعندما يشعر الأستاذ(ة) انه مصاحَب ومواكََب ، يصبح أكثر حماسا وإبداعا ، وأكثرقدرة على نقل المعارف بطريقة ممتعة تحقق التعلم المنشود ، وتتغير بيئة التعلم بأكملها ، وتخلق بيئة صفية حقيقية للتجريب الواعي والسعي نحوتغيير الهوية المهنية للمدرسين . وفي هذه الدروب تولد الريادة التربوية ، ويرفع شعار التميز في العطاء والاحترافية في التعليم . نحوثقافة مهنية داعمة للريادة والتدريس الصريح تحقيق التحول المنشود نحو التعليم الصريح ،في أفق تعميم المشروع على التراب الوطني ليغطي جميع المؤسسات التعليمية ، يتطلب ما هو أكثر من التكوين الفردي والتدريب الذاتي ، إنه تحول ثقافي بيداغوجي داخل جدران المدرسة والفصول الدراسية . وعلى القيادات التربوية ان تتيح للمارسين مساحات آمنة لتبادل التأملات والممارسات والتجارب والخبرات … وعلى فـــرق إعداد الشرائح الرقمية المنهاجية والتطوير المهني أن تركز على النمذجـــة الصفية الحية بدلا من العرض الآلي والورش النظري ، وأن يكون التقييم وصفيا بدلا من التركيز على الدرجات ؛ موجها نحو عمق التعلم لا نحو تغطية الكــــم. التدريس الصريح لا يزدهر إلا في بيئة تؤِمن بالتعلم المستمر، وترى في الخطأ فرصة للتقدم ؛لا سببا للعقاب . وتحقيق هذا يكون عبر تمكين الممارسين في الميدان – المناضلين المهذبين – من فرصة للتفكير والتدخل والمراجعة ، فرصة للتفاعل وأنسنة التعليم والتعلم ، وفرصة احترام الاحتياجات العاطفية للأطفال وليس المدرسية فقط ، وفرصة ” المعلم القدوة” وليس الإنسان الآلة ، وفرصة إعادة الدور القيادي للأستاذ(ة) لتحديد الإيقاع المناسب ؛ واختيارالشرح الملائم ؛ وتوزيع المهام ؛وتحقيق النجاح خطوة بخطوة ، وفرصة توجيه التعلم ليكون ذات تجربة ومعنـــى .بناء الثقافة المهنية من خلال هذه الفرص سيجعل الأستاذ(ة) يحتضن الإصلاح ويثمن التجربة ، ويحتفي بالمؤشرات الكيفية والسلوكيات المكتسبة . ويسعى لأن يكون قائدا للتعلم لا ناقلا للمعارف فقط ، ولن يتحقق ذلك إلا حين نتصالح مع الواقع بخطوات متزنة ومتتابعة وبفكر نقدي صادق وإصرار على التطوير … خاتمــــــة : على حافة الصمت يولد السؤال : من يفهم الأستاذ(ة)؟ بناء على ما سبق، يبقى التدريس الصريح نغمة بين الحلم والممكن ، نغمة ترقص على أوتار الإرادة وصدق العزيمة ؛ فمن أراد أن يعلم بوضوح ، فليبدأ أولا بأن يفكر بوضوح ، وليجعل من صفه مسرحا للعقل لا مرعى للحفظ الأجوف .فليس الصريح من كثر شرحه ؛بل من أبان قصده وأشعل فكــــر متعلميه ، وليس الرائد من رفع شعارا في الميدان ؛بل من خطــا في الصعاب خطو اتزان وبيان . فــلنحول -أيها الممارسون- الصدام إلى انسجام ، والطموح إلى إنجاز ماثل في الممارسات ولنجعل من كل صف منارة ، ومن كل درس حكاية ضياء ، وفكرة حياة ! ولنجعل فهم صانع القرارلعمل الأستاذ(ة) لا يعني الاكتفاء بالنظر إليه أجيــرا من خلال الجداول والتقارير والمعايير، بل يعني فهمه ككائــن بشري يحمــل رسالــة ، يعيش بين دفتي القلق والطموح ، وبين ضغط الواجب وجمال الإنجاز، إنه ليس ماكينة تلقين ، بل مرب يصنع المعنى ، وموجـــه يزرع القيــــم ، ومترجم لأحلام المجتمع في مستقل أفضل …حين يفهم صانع القرار هذا الدور العميق ، يصبح واجبه تجاه الأستاذ(ة) أكثر من تقديم تعليمات ؛ يصبح واجبه خلقَ بيئة تحميه وتسانده وتستثمر فيه . فالأستاذ(ة) هو المنظومة حين تبنى على المعرفـة والقيـم والأنســــان
يشهد المغرب وجودًا كبيرًا لعدد من الأحزاب السياسية، يتجاوز عددها العشرات، ما يثير تساؤلًا هامًا حول جدوى هذه الكثرة وتأثيرها الحقيقي في رسم السياسات العمومية. مقارنة بدول ذات تعداد سكاني ضخم وأحزاب أقل، نجد أن هذه الدول تستفيد من وجود أحزاب مؤثرة وواضحة، ما يطرح تساؤلًا: هل العدد الكبير للأحزاب في المغرب هدف في ذاته، أم مجرد عبء إضافي على ميزانية الدولة والمواطن؟ المواطن المغربي، في الغالب، لا يشعر بأن للأحزاب السياسية تأثيرًا حقيقيًا على حياته اليومية. بل يمكن القول إن السياسات العمومية غالبًا ما تُحسم في دوائر ضيقة، بعيدًا عن تأثير ومشاركة الأحزاب على الأرض. هذا الواقع يُضعف الثقة في دور الأحزاب، ويجعلها تبدو ككيانات شكلية أكثر منها فاعلة. علاوة على ذلك، لا نكاد نلاحظ وجود خطط أو برامج حزبية واضحة ومتماسكة، خاصة وأن مستوى تمثيل بعض الأحزاب لا يتجاوز الحدود الابتدائية، ويظهر ذلك جليًا من خلال ضعف بعض النواب أو الوزراء في تقديم قراءة سليمة أو نقاشات بناءة داخل البرلمان.ومع هذا المشهد، لا بد من إعادة التفكير في كيفية إنفاق الأموال العامة التي تُصرف على دعم هذه الأحزاب، خاصة مع غياب مؤشرات واضحة على مردوديتها. فهذه الأموال التي تأتي من جيوب المواطنين، الذين يعانون في صمت، تذهب إلى كيانات حزبية لا تقدم شيئًا ملموسًا، بل أحيانًا تتحول إلى عبء إضافي على الاقتصاد الوطني. وقد بات واضحًا أن تعطيل الأحزاب مثلا أو غيابها عن المشهد لفترة طويلة، قد لا يؤثر كثيرًا على الحياة العامة أو وعي المواطن، الذي بات يدرك أن هذه الأحزاب تمثل أرقامًا وأسماء لا أكثر، تستنزف من موارد الدولة بلا مردود فعلي. إذن، هل يجب أن نعيد النظر في آليات تمويل الأحزاب، وربط الدعم بالنتائج الحقيقية، بدلاً من التمادي في نظام غير مؤطر يصرف أموالًا دون جدوى؟ من ناحية أخرى، كيف يمكن توقع وجود رؤية فكرية أو فاعلية سياسية إذا كان أغلب ممثلي هذه الأحزاب لا يتمتعون بالكفاءة المطلوبة؟ وكيف ننتظر سياسات متطورة عندما يصعب على البعض منهم قراءة خطاب مكتوب أمامهم؟ هذه المعطيات تفسر حالة العجز التي تعيشها السياسات العمومية، وتُظهر الحاجة الملحة إلى إصلاح جذري في المنظومة الحزبية. في نهاية المطاف، يبقى من الضروري أن يكون هناك نقاش جاد حول دور الأحزاب، وضرورة تقليص عددها، وتركيز الجهود في أحزاب قد تكون شبه مؤثرة وقادرة على التعبير عن طموحات المواطنين. فالهدف يجب أن يكون بناء ديمقراطية حقيقية تقوم على الفاعلية وليس الكم
عاش المغرب خلال عقود من تاريخه المعاصر، نقاشا حول الهوية تناول جميع مكونات البلد الثقافية والحضارية واللغوية والدينية، وذلك في ظل نموذج دولة اعتمد أساسا على الإرث الاستعماري الذي تبنى النموذج الفرنسي، القائم على إنكار عناصر التنوع وتكريس هوية وطنية اختزالية مبنية على انتقاء عنصر وحيد وتهميش الباقي، وقد أدى النقاش العمومي المشار إليه بعد ما يقرب من نصف قرن إلى انتقال المغرب دستوريا وسياسيا من منظومة الأحادية الثقافية واللغوية إلى اختيار تدبير التنوع والاعتراف بجميع مكوناته، ولعلّ من أبرز نتائج هذا الاختيار الديمقراطي الهام، ردّ الاعتبار للانتماء الإفريقي للمغرب الذي كان مهملا يطاله النسيان لمدة غير يسيرة. ولقد أدى التنصيص في الدستور المغربي على المكون الإفريقي لهوية البلد سنة 2011، إلى تزايد اهتمام المغاربة بانتمائهم القاري، حيث صار من البديهي عدم إمكان التشكيك في الجغرافيا، باعتبارها الامتداد المادي الذي نعيش فوقه، فالمغاربة أفارقة الهوية بانتمائهم إلى الأرض التي تحدد قبل غيرها من العوامل والمكونات هوية السكان. ـ ولعل أهم العوامل لهذا الجحود المحض إيديولوجي تجاه الهوية الإفريقية أربعة عوامل يمكن توضيحها كالتالي: ـ وجود الصحراء الكبرى التي كانت تفصل منذ قرون طويلة المغرب عن بلدان جنوب الصحراء، مما أدى إلى جعل التوغل في اتجاه الجنوب مليئا بالمخاطر بسبب شساعة الصحراء ووعورتها. غير أن هذا العامل لم يمنع من جعل الصحراء نفسها معبرا وقنطرة في اتجاه الجنوب في لحظان عديدة من التاريخ، بفضل التبادل التجاري والثقافي والديني. ـ الارتباط بالمشرق بعد انتشار الإسلام في شمال إفريقيا، مما خلق امتدادا حضاريا وثقافيا بين الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكان العامل الديني من أكبر الأسباب التي جعلت المغرب مشدودا منذ قرون إلى المركز الثقافي المشرقي، وأدت بالتالي إلى جعل أواصر الارتباط بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء أقل زخما مما كانت عليه في شمال إفريقيا. ـ جهل المغاربة باللغات الإفريقية لجنوب الصحراء، في مقابل استعمالهم للغة العربية في دواليب الدولة وفي الثقافة الكتابية، وبقاء قبائل الأدغال الإفريقية على ثقافاتها القديمة الأصلية، متحصنة في حزامين اثنين حزام الصحراء وحزام الغابات الاستوائية. ـ اندلاع الصراع بين المغرب والجزائر سنة 1975 والذي أدى إلى انسحاب المغرب من “منظمة الوحدة الإفريقية” كما كانت تسمى آنذاك، في عهد الملك الحسن الثاني، حيث زاد هذا القرار من عزلة المغرب إفريقيا، وسمح للدبلوماسية الجزائرية والليبية بالعمل بنجاح ضدّ المصالح المغربية في إفريقيا. لقد كان للمغرب تاريخ زاخر في علاقته بإفريقيا جنوب الصحراء، حيث أدى التفاعل مع العمق الإفريقي جنوب الصحراء إلى تأثير ملموس في التشكيلة السكانية المغربية، كما تعمق الطابع الإفريقي للثقافة المغربية من خلال التبادل الذي اتخذ أبعادا متعددة دينية وثقافية وتجارية مع مناطق الساحل وبلدان جنوب الصحراء التي كان المؤرخون يسمونها “بلاد السودان”. ويمكن القول بعد ذلك الانقطاع التاريخي أن مغرب اليوم يعيش ما يمكن تسميته بـ”الصحوة الإفريقية للمغرب، يضع فيها المغرب تصورا عمليا لاستعادة أدواره في القارة الإفريقية، واستعادة الوعي بالانتماء إلى إفريقيا باعتباره جزءا من الوعي الوطني العام لدى المغاربة. وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى الرهانات السياسية والاقتصادية والثقافية الهامة التي أصبحت بارزة بوضوح في توجهات الدولة المغربية نحو إفريقيا خلال العقد الأخير على وجه الخصوص: ـ أن ثمة اتجاه سياسي واقتصادي أصبح أكثر اقتناعا بضرورة لعب دور استراتيجي طليعي بإفريقيا، وما جعل هذا الرهان أكثر بروزا مسلسل الشدّ والجذب مع الجارة الجزائر، التي تراجع دورها نسبيا في الآونة الأخيرة. ويبرز هذا التوجه الاقتصادي والسياسي بوضوح في عدد الاستثمارات التي تشرف عليها بنوك مغربية أصبحت تستحوذ على نصيب الأسد في المشساريع الاقتصادية بجنوب الصحراء، مما أزعج الشركات الفرنسية التي شعرت بمنافسة حقيقية من المغرب في إفريقيا مؤخرا. ـ أن هذا التوجه السياسي الاقتصادي تزامن مع اهتمام كبير بالبحث العلمي لمعرفة إفريقيا أكثر من ذي قبل، مما انعكس على المقررات والبرامج الدراسية التي أصبحت تعمل على رد الاعتبار تبعا لذلك لعدد كبير من المعطيات التاريخية والجغرافية والأنثربولوجية المتعلقة بدول جنوب الصحراء، وربط الكثير من الظواهر الثقافية المغربية بجذورها الصحراوية ـ الإفريقية إضافة إلى تمكين الباحثين المغاربة من توفير المعطيات الضرورية والوثائق اللازمة لإعادة نسج علاقات جديدة مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، مبنية على أساس الانتماء المشترك للقارة السمراء. ـ وفي هذا الاتجاه نفسه يمكن تسجيل أن اعتراف الدولة المغربية بالمكون الثقافي واللغوي والأمازيغي قد جعل انتماء المغرب إلى إفريقيا أكثر قوة، حيث تعتبر الأمازيغية بوصفها لغة وثقافة وهوية إفريقية إرثا عريقا يشدّ المغرب إلى انتمائه القاري. والسؤال المطروح هو : هل يمكن لمراهنة المغرب على إفريقيا أن تسمح له بالانتقال نحو نموذج اقتصادي وثقافي مغاير وأكثر دينامية ؟
في اليوم الدولي للتسامح 16/11/2025، نحتفل بمبدأ قانوني وحقوقي جوهري. فالتسامح يمثل الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات المتحضرة، ويعكس قدرة الدولة على حماية حقوق جميع المواطنين على قدم المساواة. التسامح هو الضمانة التي تحمي المجتمع من الانقسام والعنف، وهو معيار يقيّم مدى احترام الدول لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. ومن دونه، تصبح المجتمعات عرضة لتنامي الخطاب المتطرف وانتشار الكراهية التي تهدد السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي. على الصعيد الدولي، رسّخت المعاهدات والمواثيق هذا المبدأ، وجعلته التزامًا قانونيًا يجب على الدول تنفيذه ليس فقط عبر القوانين، بل من خلال السياسات والتدابير العملية. فعلى سبيل المثال، تُلزِم الاتفاقيات الدولية الدول بإنشاء أجهزة رقابية لمراقبة التمييز، وتطوير برامج تعليمية تُعزز الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة، بما يضمن تطبيق مبدأ التسامح على أرض الواقع. إن تعزيز التسامح لا يقتصر على الحماية من التمييز، بل يشمل أيضًا خلق بيئة مؤسسية واجتماعية تُشجع الحوار والحلول السلمية للنزاعات. فالمدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في تعليم الأجيال أهمية التسامح، بما يعزز قدراتهم على التعامل مع التنوع الاجتماعي بوعي واحترام. في هذا الإطار، تُعد القوانين الوطنية، المستوحاة من الالتزامات الدولية، أدوات حاسمة لضمان مشاركة الجميع في الحياة العامة دون خوف من التمييز أو التضييق على الحقوق. كما أنها تمنح المواطنين وسائل قانونية فعالة للطعن أو تقديم الشكاوى عند تعرضهم للتمييز، مما يحول القانون من نصوص جامدة إلى أداة حماية فعلية للمجتمع. على سبيل المثال، يمكن للدول أن تُنشئ آليات قانونية لتلقي الشكاوى ضد خطاب الكراهية، وتوفير برامج إصلاحية للمتعصبين، بما يدمج البعد الوقائي مع البعد العقابي. وهذا يضمن معالجة الأسباب الجذرية للتعصب ويتيح إعادة دمج الأفراد في المجتمع بطريقة إيجابية، بدل الاقتصار على العقوبة فقط. ومن منظور قانوني عملي، لا يكفي اعتماد التشريعات فقط، بل يجب أن تتواكب مع سياسات تعليمية وإعلامية مستمرة تعزز فهم الأفراد لحقوقهم وواجباتهم تجاه الآخرين. فالفرد الذي يعرف حقوقه وواجباته يكون أكثر قدرة على احترام حقوق الآخرين، ويصبح شريكًا فعالًا في تعزيز التسامح على المستوى الاجتماعي والقانوني. كما أن تكامل المؤسسات القضائية مع مؤسسات المجتمع المدني يُعدّ شرطًا أساسيًا لتحقيق التسامح على أرض الواقع. حيث يمكن لهذه الشراكة أن توفر رقابة حقيقية على تطبيق القوانين، وتدعم الحملات التوعوية، وتُسهم في بناء ثقافة قانونية متينة تحمي جميع المواطنين. إنّي أؤكد أن التسامح مسار قانوني وأخلاقي وحقوقي متكامل، يرسّخ العدالة ويحمي الحقوق. ويحوّل اليوم الدولي للتسامح من مناسبة رمزية إلى التزام يومي يظهر في سلوكنا اليومي، في القوانين التي نصيغها، وفي المؤسسات التي نديرها، ليكون التسامح واقعًا ملموسًا وليس شعارًا فقط. إن الكيان الصهيوني يضرب بعرض الحائط كل هذه المفاهيم ويمثل كياناً عنصرياً ونازياً وفاشياً وعنوان جرائمه الإبادة الجماعية دون حسيب أممي. وعليه يقتضي أن تقوم دول العالم في إجراء المحاسبة والمساءلة وتنفيذ إجراءاتها بحقه والعمل على طرده من الأمم المتحدة اليوم قبل الغد حتى لا يبقى كل ما ذكرناه حبراً على ورق. وهنا يتبين ما إذا كانت الدول في العالم تتمتع بالمفاهيم التي ذكرناها آنفاً. وأختتم بالقول: ” التسامح الحقيقي لا يتحقق بالكلمات وحدها، بل بالعدالة، بالمحاسبة، وبالتربية القانونية المستمرة التي تغرس الاحترام والمساواة في النفوس”. ولذلك، يجب أن يتحول مبدأ التسامح إلى ممارسة يومية، تبدأ من الفرد وتمتد إلى المجتمع والدولة، بما يضمن حماية حقوق الجميع ويعزز السلم الاجتماعي
“انتهت” دينامية جيل زد كما كان متوقعاً. رمَت حجرا في بركة راكدةٍ، وانصرفت. مفاجأة البدايات، تكرّرت في النهايات. ما بدأ خاطفاً ومُلهماً ومُربكاً، “تلاشى” سريعاً، ولأكثر من سببٍ ممّا فصلنا فيه هذا الحيّز (حِبر الختام). ما بقي الآن هو كثيرٌ من الوعود والخطابات من جهة الدولة، التي ألقى وزراؤها الكلام في أيّ مكان في سبيل احتواء الوضع، وعلى أمل الاستدراك على سوء إدارة حكومة مشغولة بـ”الهموز”، آخر فصوله اتهام رئيس المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنميةفي مجلس النواب عبد الله بوانو لوزارة الصحة بشأن صفقات استفاد منها وزير آخر، ردّت عليها الوزارة ببيان لا يكاد ينفي أو يُثبت. ما بقي أيضا من دينامية جيل زد هي جبالٌ من الأسئلة التي يجب أن يُفتّش الدارسون والباحثون عن أجوبة لها وقد غادرها الصحافيون يُلاحقون “طوارئَ” وشواغل أخرى. وما بقي هي شبيبةٌ مغربية أطلّت برأسها على المجتمع من عالم رقمي شائك ومتفاعل ومتنافر ومخترق، ثم عادت إلى “عالمها الموازي”، في انتظار فرصة أخرى لا أحد يدّعي القدرة على استشرافها. هؤلاء لن يكترث أحدٌ للسؤال عنهم وقد انسحبوا “بهدوء”. ستنسى الأحزاب وباقي مؤسسات الوساطة، وستعتقد الدولة أن تمويل حملة انتخابية كافٍ لاستيعاب الشباب في برلمان ومؤسسات تبتلعها حيتانٌ وديناصورات انتخابية “تعرف كيف تفوز” أو يفوز من يخدم مصالحها، أو تعتقد أن تخصيص وصرف ميزانيات ضخمة مثلا في قطاع الصحة سيصحّح الأوضاع دون تفكيك بنى الفساد التي تتحرك بأسلوب “قُطّاع الطريق” الذين يختبئون في كل زاوية من المؤسسات، وبين ثنايا القوانين والصفقات، لحلبِ المال العام. وأيضاً، وهذا غرض المقالة، تبقّت لائحة طويلة من مئات الشباب يُحاكمون ويُسجنون لأنهم طالبوا بالحق في التعليم والصحة. هؤلاء لا يجب أن يتحوّلوا إلى مجرد “أضرار جانبية” فقط لأن العقل الأمني، في لحظة ما، انفعل أكثر من اللزوم في التعامل مع “وافد جديد” على الشارع. انشغل الرأي العام، منذ يوم 27 شتنبر ولأسابيع، بتلك المشهدية الاحتجاجية التي رسمها شباب كان “ميؤوساً من تسييسهم”، ثم تحوّل “الجمهور” إلى التالي جرياً على عادةِ أن ترمينا شبكات التواصل من نقاش إلى آخر، ومن “مُلْهية” إلى أخرى، نلهثُ وراء ما يثير، وقلّ أن نُمسك بخيطٍ “صحيح” أو أن نستقّر فيما يُفيد. ولأن الواقع لا يرتفع، ولأنّ جهلنا بالأشياء لا ينفيها، تستمر في مكان آخر قصص شباب من جيل زد بشكل أكثر مأساوية بعيداً عن تلك الصورة (الملحمية) للاحتجاج، التي صوّرت المغرب بلداً حيّا، بعضُ شبابه يعبّرون في الشارع بكل رقيّ، وآخرون يفوزون بكأس العالم. في المحاكم تتواصل فصولٌ أخرى لا تسرّ الناظرين ولا السامعين، ولا يجب أن تحجب انتصارات الكرة أو “التحول التاريخي” في قضية الصحراء الكلام عنها، ما دامت تعني واجهة واحدة في المغرب الموحّد والمأمول أن يكون ديمقراطياً، الواثق من نفسه واختياراته، وليس المغرب المتشكّك من تعبير سلمي لشبابٍ جرّب كثير منه، لأول مرة، “الحوار” مع الدولة، وفق ما يعتقده حقّاً وأمراً طبيعيا بين سلطةٍ ومواطنين، مثلما يشاهد في عالمٍ صارَ أقربَ إليه و”مِلْكَ يديه” بفعل تأثير الأنترنت ومجاهيله، التي تأكد لكثيرين منا أنهم لا يعرفون منه إلا فايسبوك وأنستغرام وإكس، وغوغل. النيابة العامة تحدثت نهاية أكتوبر الماضي عن أكثر من 2400 شخص، بينهم أكثر من 1400 قيد الاحتجاز، واجهوا ملاحقات قضائية على خلفية احتجاجات جيل زد. هذا يعني أن حجم الاعتقالات كان واسعاً جدا باعتبار حجم من جرى الادعاء ضدهم أمام المحاكم. الآن يبدو معقولاً تسليط الضوء، قبل أن نطوي صفحة هذه الدينامية، على شباب كان سقف مطالبه معيشياً ( وإنْ بالغ في مرحلةٍ بطرح مطالب سياسية لم تكن متناسبةً مع حجم الزخم المتحقّق في الشارع)، تلاحِقه أحكامٌ قضائية قضت بناءً على تحقيقات مستعجلة وصكوك اتهام بالغت كذلك في تكييف الوقائع والأحداث. نكتفي بنموذجين: الأول لطلّاب جامعيين، وآخر لمرضى، للدلالة على أن مسار الاعتقالات والمحاكمات على خلفية احتجاجات جيل زد شابته نواقص وأخطاء و”خطايا” يجب تصويبها. نموذج محاكمة ثلاثة شبان بسبب قمصانٍ تحمل عبارتي “الحرية لفلسطين” و”الصحة والتعليم للجميع” عجائبيٌّ إلى أبعد حدّ وغير متناسبٍ مع مغرب 2025. المحكمة قضت بشهر وأربعة أشهر في حقّ الثلاثة. وحين تعرف أن المُدانين طالبان بسلك الماستر في القنيطرة، إلى جانب صاحب مطبعة بالرباط، يتنقل الأمر من العجائبية إلى كثير من الأسى. محكمة عين السبع في الدار البيضاء بدورها أدانت شاباً، جرى توقيفه في كلميم قبل بدء الاحتجاجات بيوم واحد، بالسجن خمس سنوات نافذة بادعاء “تحريضه” على المشاركة في احتجاجات جيل زد. الشاب كذلك يتابع دراسته الجامعية في السنة الثالثة، ويملك تكوينا متخصصا في أنظمة المعلوميات والذكاء الاصطناعي. سجن هؤلاء الطلاب بتُهمة المطالبة السلمية بتصويب أوضاع يعلم الجميع تردّيها قلبٌ لمساراتهم في الحياة رأساً على عقب، واستخدام للقانون بشكل سيء. أما أن تُحاكم سيدة تعاني اضطرابات نفسية، على خلفية تصريحات مصورة بالتزامن مع الاحتجاجات، فتلك قصة أخرى. دفاع المتهمة أكد أنها خضعت للعلاج مرتين في مستشفى للأمراض العقلية، ودفع بأن تصرفاتها “غير الطبيعية” أمام المحكمة تثبت أنه لا يمكن تحميلها أي مسؤولية جنائية عمّا يصدرها عنها باعتبارها حالة مرضية، وطالب بإخضاعها للعلاج، لكن محاكمتها تواصلت، وأغمض القضاة أعينهم على حقيقة وضعها، إلى أن قضت ضدها المحكمة الابتدائية في الرباط بالسجن النافذ 8 أشهر. في ابتدائية وجدة، يُتابع قاصر “مختل عقليا”، ويعاني إعاقة حركية، من النيابة العامة لدى المحكمة الابتدائية في حالة اعتقال. هذه عيّنات مما تُسعف الذاكرة لاستحضاره، وإلا فإن كل حالة من الـ2400 الذين وردوا في بيان النيابة العامة هي قصة إنسانية قبل أن تكون صكّ اتهام صِيغَ على عجل، وفي لحظة ارتباكٍ وضغط، وأقرّ القضاء بمقتضاها إدانات. إلا إنْ كان الغرض من الأساس عملية تأديب واسعة “باش يتربّاو الدراري”. افتقاد التعاطف يهدّد المجتمعات. هؤلاء يستحقون تعاطفاً ودفاعاً وتذكيراً بهم، في مواجهة سلوك سلطوي أخذ بالأمور إلى مسارات مدمّرة للأشخاص. قد لا تمثل محاكمة مئات الشبان من منظور السلطة شيئاً، وقد تُبرِّر لنفسها بتطبيق القانون، لكنه من منظور المجتمع يجب أن يعني أننا بصدد حالة تضييق على حق المغاربة في التعبير، وإساءة بالغة للسلطة التقديرية الممنوحة لرجل السلطة وللقضاء. السلطة سلطة، و”السلطة المطلقة مفسدة مطلقة” كما يُقال، لهذا يجب أن يحوز المجتمع باستمرار كوابحَ تمنع “المفسدة المطلقة”. قصص هؤلاء الشباب ليست حاشيةً على متن السياسة والحقوق ودولة القانون. يوجدون في صلبه، وعلى أساسه يمكن أن تُستخلص كثير من النتائج حول مدى تمتّع السلطة بـ”الروح الرياضية/ الديمقراطية” بشأن حقّ المجتمع في التعبير عن نفسه. الدينامية التي تفاعل معها الملك محمد السادس إيجابياً، ودعم مشروعية مطالبها، على طريقته، ووفق ما اقتضته المصلحة والمقام، لا تستحق هذه القائمة الطويلة من المتابعين والمدانين والمعتقلين. إن الإقرار الرسمي بمشروعية مطالب شباب جيل زد، والزخم الذي أحدثته، حتى اعتُمدت ميزانيات واستراتيجيات وقرارات، وفُتحت بلاطوهات الإعلام أمام الحكومة للاستدراك على السُّبات، قبل أن يعود هذا الإعلام إلى “عاداته القديمة” و”روتينه اليومي”، لا ينسجم بأي حال مع 2400 محاكمة، كثير منها بلا معنى. أطلقوا الشباب ممن عبّروا سلمياً ولم يتورّطوا في ممارسة العنف والتخريب. أما وقد “توقفت” احتجاجات جيل زد، فإن سعي الدولة إلى إيجاد حلّ سيكون ذا دلالة كبيرة، بما يثبت أن السلطة يمكن أن تخطئ، لكنها تتمتع بحسّ عالٍ للتصحيح. اكتبوا السطر الأخير بقلمِ جُرأة التصويب
يشكل اعتماد مجلس الأمن للقرار رقم 2797 محطة فارقة في مسار نزاع الصحراء المغربية، ليس فقط لأنه يؤكد مركزية مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، بل لأنه يعلن للمرة الأولى بلغة واضحة أن هذا الحل هو الإطار الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق لحل نزاع دام لقرابة نصف قرن. هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة جهد دبلوماسي مغربي مستمر وقراءة دولية جديدة تقوم على الواقعية السياسية، ومحاربة الإرهاب، والدفاع عن الاستقرار الإقليمي في منطقة مغاربية تهتز اليوم على وقع سياسات الجزائر ودعمها اللامشروط لجبهة البوليساريو الانفصالية. منذ تقديم المملكة المغربية لمبادرة الحكم الذاتي سنة 2007، اعتبر المجتمع الدولي أنّ المقترح المغربي يتمتع بجدية وواقعية وقدرة تنفيذية لا تتوافر في أي طرح آخر. ومع القرار 2797، أصبح هذا التصور قاعدة سياسية رسمية في مجلس الأمن، حيث تم الإقرار بأن الحكم الذاتي هو المخرج العملي الأكثر قابلية للتطبيق، وأن البدائل الأخرى لم تعد مطروحة فعلياً على طاولة الأمم المتحدة. الاعتراف الدولي المتزايد يستند إلى عدة عوامل واضحة: الشرعية التاريخية والقانونية للمغرب على أقاليمه الجنوبية. الاستثمارات الكبرى في الصحراء المغربية التي جعلتها نموذجاً للتنمية والبنية التحتية في القارة. الاستقرار السياسي والمؤسساتي للمملكة مقابل انهيار المشروع الانفصالي. بهذا، لم يعد السؤال: “ما هو الحل؟” بل أصبح: متى وكيف سيتم تنزيل الحكم الذاتي؟ البوليساريو.. مشروع انفصالي مأزوم ومتورط في الجرائم على النقيض من التقدم المغربي، تجد جبهة البوليساريو الانفصالية نفسها في عزلة غير مسبوقة، إذ بدأت أكثر من 40 دولة بسحب اعترافها بما يسمى “الجمهورية الصحراوية الوهمية”، ولم يعد لأي طرح انفصالي مكان داخل الأمم المتحدة. البوليساريو الانفصالية لم تعد حركة سياسية، بل جماعة مسلحة ارهابية متورطة في: تجنيد الأطفال في مخيمات تندوف، في خرق صارخ للقانون الدولي. التهريب الدولي بكل أنواعه، بما فيه الأسلحة والوقود والبشر عبر الساحل والصحراء. الارتباط بشبكات إرهابية في الساحل، بما فيها الجماعات المتطرفة الموالية للقاعدة وداعش. قتل المدنيين واستهداف سائقي الشاحنات الأبرياء في اعتداءات إرهابية. هذه الممارسات مكنت العالم من إدراك أن البوليساريو الانفصالية أصبحت أداة أمنية تستخدمها الجزائر للضغط على المغرب، وليس فاعلاً سياسياً قائماً بذاته. الدور الجزائري في النزاع صار واضحاً، ويقوم على استراتيجية ثابتة تهدف إلى إضعاف المغرب عبر خلق كيان انفصالي في جنوبه. هذا الدعم لم يكن يوماً “تضامناً” مع القضية الصحراوية، بل جزءاً من عقيدة عسكرية جزائرية ترى في استقرار المغرب تهديداً للنظام القائم في الجزائر. القرار 2797 كشف حدود هذه السياسة، بعد تورط الجزائر في: تمويل وتسليح البوليساريو عرقلة جهود الأمم المتحدة إذكاء التوتر الإقليمي رفض الحوار المباشر مع المغرب احتجاز سكان مخيمات تندوف فوق التراب الجزائري دون رقابة أممية بدلاً من استثمار ثرواتها، تواجه الجزائر أزمة اقتصادية واجتماعية مزمنة، في الوقت الذي يعزز فيه المغرب مكانته الإقليمية والدولية. القرار 2797.. تغيير جذري في قواعد اللعبة يحمل القرار 2797 دلالات جوهرية: إسقاط خيار الاستفتاء الذي أصبح متجاوزاً دولياً منذ عقود. اعتماد الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كقاعدة تفاوضية معترف بها دولياً. تحديد العملية التفاوضية في إطار واقعي يحترم سيادة المغرب ويضع حدّاً للادعاءات الانفصالية. تمديد ولاية بعثة المينورسو لمدة سنة، بما يعكس رغبة المجتمع الدولي في استقرار الإقليم. دعوة للمفاوضات دون شروط مسبقة، ما يسقط مزاعم البوليساريو الانفصالية ويقلص هامش المناورة أمام الجزائر. القرار يمثل لحظة فاصلة لأنه يقطع مع الغموض السياسي السابق ويفرض إطاراً جديداً مبنياً على الواقعية السياسية والشرعية الدولية. المغرب.. قوة دبلوماسية ورؤية ملكية واضحة النجاح المغربي في هذا الملف جاء نتيجة جهد دبلوماسي طويل يقوده جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، يتمثل في: تمسك المغرب بسيادته الكاملة على أقاليمه الجنوبية الحرص على الحوار بدون تنازل عن الثوابت الوطنية مد اليد للجزائر لإعادة العلاقات إلى طبيعتها هذه السياسة أكسبت المغرب احتراماً دولياً، وعززت من شرعية الحل المغربي، بينما وضعت خصومه في عزلة غير مسبوقة. تداعيات القرار على مستقبل النزاع القرار 2797 يمهد لمرحلة جديدة يمكن تلخيصها في النقاط التالية: حصر العملية التفاوضية في إطار الحكم الذاتي. تقليص هامش المناورة أمام الجزائر والبوليساريو. تعزيز الاستثمارات في الأقاليم الجنوبية المغربية. دعم الاستقرار الأمني في المنطقة. فتح مخيمات تندوف للرقابة الدولية وتمكين المحتجزين من العودة إلى وطنهم. القرار 2797 ليس مجرد وثيقة تقنية، بل دولي بأن مقترح الحكم الذاتي المغربي أصبح الإطار الوحيد الموثوق والمقبول. ومع تعزيز المغرب مكانته الإقليمية والدولية، تواجه البوليساريو والجزائر عزلة غير مسبوقة، بينما يفتح القرار فرصاً تاريخية للصحراويين في مخيمات تندوف للعودة إلى وطنهم والمشاركة في التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في إطار الحكم الذاتي. الصحراء المغربية لم تعد قضية قابلة للنقاش، بل واقع سياسي وقانوني وديبلوماسي راسخ. إن المرحلة المقبلة ستتطلب شجاعة سياسية من جميع الأطراف، لكن الأسس اليوم واضحة:الصحراء في مغربها… والمغرب في صحرائه
أكد الدستور المغربي الصادر لعام 2011 أن التنظيم الترابي للمملكة يقوم على اللامركزية والجهوية المتقدمة، وهو خيار استراتيجي يعكس إصرار المغرب على بناء دولة ديمقراطية حديثة، يسودها الحق والقانون والحكامة الجيدة، في ظل القيادة المتبصرة والحكيمة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله. ويأتي مضمون الفصل الأول من الدستور على أن ” المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة على ترابها، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبمقومات هويتها الموحدة التي تنصهر فيها المكونات العربية والإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية. وعملها على صيانة ثقافاتها المتنوعة تحت رايتها وقيادتها الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس هدفها السلم والسلام لشعبها والعمل على وحدته والتزامه على العمل في بناء اتحاد مغاربي كخيار استراتيجي وتعميق أواصر الانتماء العربي الإسلامي والافريقي وتوطيد أواصر وشائج الاخوة والتضامن مع شعوب العالم الشقيق ومد اليد للتعاون المشترك بغية تحقيق التنمية الشاملة وتقوية التعاون المشترك. وإذا نظرنا الى الجهوية المتقدمة ومشروع الحكم الذاتي الذي اقترحه الجانب المغربي لأبناء إقليم الصحراء المغربية فإننا قد نجدهما يشتركان في الهدف نفسه، وهو تفويض السلطة من المركز إلى الجهات من أجل تمكينها من إدارة شؤونها المحلية، لكن مع الحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها. حيث ترتكز الجهوية المتقدمة التي أقرها الدستور المغربي عام 2011م على أربعة مبادئ أساسية وهي: • اللامركزية: نقل بعض الصلاحيات من الحكومة المركزية إلى الجهات.• التنمية المحلية: إشراك الجهات في وضع وتنفيذ برامج التنمية.• المشاركة: تعزيز دور المواطنين في تدبير شؤونهم من خلال المجالس المنتخبة.• التضامن: تحقيق التوازن بين مختلف الجهات عبر التعاون والدعم المتبادل. وكما يعلم الكل أن التنظيم الإداري بالمغرب يتكون من12 جهة، في كل واحدة منها واليًا يمثل السلطة المركزية، ورئيس مجلس جهوي منتخب يتولى تنفيذ البرامج التنموية. كما أن لكل جهة اختصاص ذاتي ومشترك ومنقول، وموارد مالية خاصة، بما يضمن استقلاليتها في التسيير اليومي لسكانها. لهذا يمكننا اعتبار مقترح الحكم الذاتي في الأقاليم الصحراوية المغربية هو مقترح واقعي وعملي سبق للمملكة المغربية وأن جسدته فعليا وعمليا على أرض الواقع من خلال فكرة اللامركزية المتقدمة التي قررها الدستور المغربي لعام2011م. اللهم بعض الاختلافات الشكلية فقط. حيث أن المغرب وبرغبة والتزام منه بالعمل على إيجاد حل سياسي نهائي بكل عزم وإخلاص للنزاع المصطنع بوحدته الترابية وعزمه بتكفله بكافة أبنائه الصحراويين سواء المتواجدين في الداخل أو في الخارج بعيدا عن أي تمييز أو اقصاء، قدم وبشكل رسمي نص مشروع مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية مرفوق برسالة رسمية بعد توجهات جلالة الملك سبط النبي محمد ﷺ بتاريخ الأربعاء 11 ابريل 2007م للأمين العام للأمم المتحدة، “حفاظا على أبنائه الصحراويين وامتثالا وقدوة بجده النبي ﷺ، أما الأرض ومغربية الصحراء فلا نقاش وغبار عليها”. يقترح من خلالها وحسب الفقرة الخامسة ” تولي سكان الصحراء وبشكل ديمقراطي، تدبير شؤونهم بأنفسهم من خلال هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية تتمتع باختصاصات حصرية” مع احتفاظ الدولة المغربية حسب الفقرة السادسة ” باختصاصاتها في ميادين السيادة، لاسيما الدفاع والعلاقات الخارجية والامن الوطني والاختصاصات الدستورية والدينية لجلالة الملك أمير المؤمنين” هذا الاقتراح أو المشروع المغربي الذي أصبح واقع وخيارا استراتيجيا هاما لا رجعة فيه يستمد شرعيته وضوابطه من معايير ومقترحات معمول بها أصلا داخل الأمم المتحدة ومن الاحكام الدستورية المعمول بها في الدول القريبة من المغرب جغرافيا وثقافيا. حيث يخول حسب الفقرة 12 من نص المبادرة أبناء المغرب سكان الأقاليم الصحراوية صلاحيات واسعة لإدارة شؤونهم المحلية في مجالات كالتعليم، والصحة، والنقل، والتنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، والثقافة، والشرطة المحلية ومحاكم الجهة، مع منحهم موارد ومخصصات مالية سواء من عائدات وممتلكات الجهة أو الجهات المغربية الأخرى، لأنه مغرب موحد هدفه التنمية الشاملة والوحدة المغربية حسب اليوم التاريخي وعيد الوحدة الذي اطلقه جلالته الكريم يوم 31 أكتوبر من كل عام ، مع إمكانية إقامة علاقات ثقافية واقتصادية دولية في إطار السيادة المغربية، دون أي تمثيل دبلوماسي مستقل. مع احتفاظ الدولة وحسب الفقرة 14 من النص على صلاحياتها الحصرية في مقومات السيادة والمقومات المرتبطة بالاختصاصات الدستورية والدينية لصاحب الجلالة نصره الله بصفته أمير المؤمنين والضامن لحرية ممارسة الشعائر الدينية والحريات الفردية والجماعية لكل المغاربة، وكذلك مجالات السياسة الخارجية، والدفاع، والأمن الوطني، والوحدة الترابية والنظام القضائي والدستوري. كما ينص المقترح من خلال الفقرة 19 على إنشاء مجلس إقليمي مصغر منتخب من طرف مختلف القبائل الصحراوية وكذا من أعضاء منتخبين بالاقتراع العام المباشر من طرف سكان الجهة يمارس سلطته التشريعية و التنفيذية ، إضافة إلى محكمة عليا إقليمية تشتغل ضمن احترام الدستور المغربي. ويضمن المشروع مشاركة المواطنين في الحياة السياسية، مع الحفاظ على الهوية الثقافية واللغوية للأقاليم. والتشديد على أن وحدة المملكة المغربية وثوابتها غير قابلة للتجزئة، وأن أي نظام للحكم الذاتي أو الجهوية لا يمكن أن يخرج عن السيادة الوطنية وشعارها الخالد: “الله، الوطن، الملك”. حقيقة يجب ذكرها أن الجهوية المتقدمة والحكم الذاتي الداخلي الذي أقره المغرب على أقاليمه الصحراوية يمثلان ركيزتين أساسيتين متساوتان لهما نفس الهدف في المشروع المغربي لبناء دولة قوية ومتوازنة موحدة، تُعطي لكل جهة حقها في التنمية والتدبير، دون المساس بوحدة الوطن وثوابته. وهو نموذج فريد يجمع بين الحداثة السياسية والوفاء، ويؤكد الرؤية المتبصرة لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله في ترسيخ دولة المؤسسات والعدالة والتنمية الشاملة. كما أنهما وجهين لمشروع وطني متكامل يهدف إلى تحقيق التنمية، وترسيخ الديمقراطية، وتعزيز الوحدة الوطنية. وهما نموذج مغربي يترجمان رؤية جلالته في بناء مغرب متماسك، متضامن، وديمقراطي، يسوده الأمن والاستقرار، وتُصان فيه السيادة الوطنية على كامل التراب المغربي. لذلك فإن المرحلة والأشهر القادمة تتطلب منا نحن كل المغاربة واخواننا في الصحراء تجاوز المصالح الفردية الضيقة، والعمل بروح الجماعة والمواطنة الفعالة فالحكم الذاتي ليس غنيمة توزع، بل هو مشروع وطني جماعي يتطلب تعاون جميع المكونات سواء منها الدولة، والمجتمع المدني، والشباب، والقبائل، والنخب الفكرية والاقتصادية، ومد اليد والمصالحة الصادقة كما عهدناها في هيئة المصالحة التي أقرها جلالته منذ اعتلاء العرش المجيد، مع التركيز على وحدة المملكة المغربية وموروتها الثقافي والاسري والديني شعاره الله الوطن الملك، وذلك من خلال الخروج بنصوص وقرارات موحدة هدفها المساهمة في تنميته اقتصادية وتنموية مستدامة لا تعطيلها وبناء مغرب موحد . من خلال نشر الوعي الثقافي وخلق شعور بالمسئولية الجماعية اتجاه مستقبل المنطقة والابتعاد عن التجاوزات والمصالح الفردية الضيقة وبناء الثقة وحب الوطن الصادق لأنه لن يكتمل أي نجاح ووحدة وطنية إلا بترسيخ حب الوطن في قلوب الكل، حتى الصحراويين العائدين من تندوف. عبر سياسات إدماج موفقة، وإشراك فعلي في القرار المحلي، وإبراز ثمار التنمية المحلية على أرض الواقع. فحين يشعر المواطن الصحراوي أنه جزء فاعل ومؤثر في بناء وطنه، حتما سوف تزول كل الولاءات الوهمية الخداعة، ويصبح الدفاع عن الوحدة الترابية المغربية قناعة نابعة من الداخل لا مفروضة من الخارج. وأخيرا لما لا النظر وشكل جدي على تغليب اللامركزية الإدارية المتقدمة التي أقرها دستور2011م دون الدخول بحيثيات البرلمان والحكومة المصغرة التي يقرها الحكم الذاتي، بحيث تنقل بعض السلطات والمهام من الإدارة المركزية إلى الهيئات أو المؤسسات المحلية بشكل فعلي مع المحاسبة، مع تمكينها من اتخاذ قراراتها بشكل مستقل ضمن نطاق مسؤولياتها. الهدف منها تقريب السلطة وتنمية المنطقة والمواطن وتحسين جودة الخدمات العمومية للجهة حتى يتم تلافي الثغرات والمصالح الضيقة للأفراد والمجموعات، مما يمكن أن يخلق عراقيل، حقيقة المغرب وكل فرد منه في غنى عنها
مع اقتراب المغرب من استحقاقات انتخابية جديدة، يتفاعل المشهد الوطني على إيقاع متغيرات داخلية وخارجية تجعل المرحلة أكثر حساسية من سابقاتها. فبين دينامية تنموية متصاعدة وتجاذبات سياسية محتدمة، يقف الوطن أمام مفترق طرق يتطلب وضوحا في الرؤية وحكمة في إدارة التنافس الحزبي، خاصة في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية ودبلوماسية ذات وزن استراتيجي. فقد شهد المغرب خلال السنوات الأخيرة تسارعا لافتا في مشاريع التنمية الكبرى، التي تمثل جزءا من رؤية شمولية ومتبصرة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده تهدف إلى تعزيز مكانة المغرب دوليا وإقليميا. في مقدمة هذه الأوراش تأتي مشاريع الطاقات المتجددة التي جعلت المغرب نموذجا قاريا، إضافة إلى تطوير البنية التحتية من موانئ وطرق وقطارات، فضلا عن الاستثمار في الرقمنة والحلول التكنولوجية. ويبرز ورش تعميم الحماية الاجتماعية باعتباره تحولا عميقا في السياسات العمومية، يستهدف تقليص الهشاشة وتعزيز العدالة الاجتماعية، في وقت يواصل الاقتصاد الوطني محاولات متوازنة لمواجهة تداعيات تقلبات الأسواق العالمية وارتفاع الأسعار. وعلى الجانب الآخر، تشهد الساحة الحزبية حالة من الاستنفار السياسي، حيث ترتفع حدة التنافس الداخلي والخارجي بين الفاعلين السياسيين مع اقتراب الانتخابات. وتتكثف الخلافات داخل بعض التنظيمات حول التزكيات والقيادات، بينما تتجه أحزاب أخرى نحو تصعيد الخطاب الشعبوي لكسب تعاطف فئات واسعة من المواطنين المتذمرين من أوضاع المعيشة. هذه الظاهرة ليست جديدة، لكنها تبدو أكثر حضورا في مرحلة تتسم بضغط اجتماعي متزايد، ما يطرح تحديات حول قدرة الأحزاب على تقديم بدائل واقعية بدل الانغماس في منطق المناوشات والمزايدات. ورغم الإنجازات الكبرى، ما زال المواطن المغربي يواجه تحديات يومية تتعلق بارتفاع الأسعار، وضعف الخدمات في بعض القطاعات الأساسية، وتفاوت التنمية بين الجهات. هذه الملفات تفرض نفسها على جدول الأعمال الانتخابي، إذ ينتظر المواطن برنامج حقيقية وقدرة على التنفيذ، لا وعودا فضفاضة أو سجالات حزبية لا تعنيه. وتبرز الحاجة إلى طبقة سياسية جديدة توظف اللحظة الانتخابية لتجديد الثقة بين المواطن والمؤسسات، بدل تحويلها إلى موسم للمزايدات قصيرة المدى. إن القراءة الشاملة للوضع تكشف أن المغرب يقف في لحظة تستدعي ترشيد الفعل السياسي ورفع منسوب المسؤولية لدى الأحزاب. فالتنافس الانتخابي مطلوب ومشروع، لكنه يجب أن يظل مؤطرا بضوابط الديمقراطية واحترام الأولويات الوطنية. وفي مقدمة هذه الأولويات: صون الوحدة الترابية، تسريع مشاريع التنمية، والارتقاء بمستوى النقاش العمومي. وخلاصة القول، إن يدخل المغرب مرحلة انتخابية جديدة محملة بالآمال والتحديات في آن واحد.فبين إنجازات كبرى تبنى بصبر واستشراف، وصراعات سياسية تدار بعقلية موسمية، يظل الرهان الحقيقي هو جعل الاستحقاقات المقبلة محطة لتكريس النضج الديمقراطي وتعزيز مسار التنمية الشاملة، مع الحفاظ على مركزية القضية الوطنية كعنوان لوحدة الصف والثبات الاستراتيجي. ويبقى السؤال الجوهري: هل تنجح الأحزاب في تحويل هذه اللحظة إلى فرصة للإبداع السياسي والتخطيط للمستقبل، أم ستغرق في معارك جانبية تفقد السياسة معناها الحقيقي؟ باحثة بسلك الدكتوراه في الأداء السياسي والدستوري
جميع الحقوق محفوظة لموقع رعد الخبر 2025 ©